سعياً منهُ لتوفيرِ فضاءٍ رحبٍ للقاءِ الأديانِ على أهدافٍ إنسانيةٍ كبرى، وسطَ عالمٍ يسودُهُ العنفُ، وتزعزعُ الثقةِ بالآخرِ، وسوءُ التفاهمِ الدينيِّ، وتسييسُ التعاليمِ الدينيةِ لتبريرِ ممارساتٍ بعيدةٍ عن جوهرِ الأديانِ وروحيتِها، انطلقَ المجلسُ العراقيُّ للحوارِ بينَ الأديانِ لتلبيةِ حاجةٍ حقيقيةٍ وملحةٍ للحوارِ.
جاءتِ المبادرةُ في سياقِ إدراكِ ضرورةٍ ملحّةٍ للحوارِ بينَ الأديانِ بما لها من دورٍ فاعلٍ في تعزيزِ السلامِ والمصالحةِ في مجتمعاتِنا العربيةِ التي ابتليتْ بنزاعاتٍ لا تنتهي، غذتْها التأويلاتُ المتطرفةُ للدينِ، ولأنَّ الدينَ يمكنُ أنْ يكونَ جزءاً من الحلِّ، بدلاً من أنْ ينظرَ إليه مصدراً للمشكلةِ، وبما أنَّهُ يمثلُ جسراً لتحقيقِ السلمِ الأهليِّ، ومصدراً مهمّاً لبناءِ السلامِ الدائمِ، سيكونُ لهُ الاثرُ البالغُ في بناءِ مجتمعاتِ الشرقِ عامة، والانتقالِ بها من صعوباتِ المرحلةِ الانتقاليةِ إلى عالمِ الاستقرارِ الدائمِ.
لذا نجدُ لهذا التأسيسِ ضرورةً عاجلةً لحراجةِ الظرفِ الذي يواجهُهُ العراقُ، والخشيةُ من خطرِ تحوّلِ هويتهِ التعدديةِ إلى هويةٍ أحاديةٍ بسببِ هجرةِ مكوناتهِ، وتفككِ نسيجهِ الاجتماعيِّ؛ بسببِ الصراعاتِ السياسيةِ على السلطةِ.
ولحمايةِ هويةِ البلادِ التعدديةِ، وتنوعهِ العرقيِّ والدينيِّ والثقافيِّ الذي يُعدُّ مصدرَ إثراءٍ للأجيالِ المقبلةِ، حملَ تأسيسُ المجلسِ هاجسَ تحويلِ حوارِ الأديانِ إلى مهمةٍ حاسمةٍ، بوصفهِ عاملاً احترازياً أو وقائياً لدرءِ المخاطرِ ومواجهةِ الأزماتِ الاجتماعيةِ والسياسيةِ واحتوائِها، أو منعِ وقوعِها في المستقبلِ.
يرى المجلسُ أنَّ تبني ثقافةِ الحوارِ في العراقِ على وجهٍ خاصٍ، والأديانِ الابراهيميةِ في الشرقِ، والأديانِ الأخرى في العالمِ، باتتْ ضرورةً لايمكنُ الاستغناءَ عنها، فقد أصبحتْ مشكلةُ التنوعِ الدينيِّ، ونتائِجُها المتمثلةُ في الصراعِ الدينيِّ والطائفيِّ في الشرقِ الأوسطِ، وصدامِ الحضاراتِ بين الإسلامِ والغربِ، تمثلُ صراعاتٍ لها تركةٌ ثقيلةٌ وآثارٌ سلبيةٌ على مستقبلِ العلاقاتِ الدوليةِ، وتهديداً للأمنِ والسلمِ الدوليَينِ.
وفي هذا السياقِ لا يمكنُ التفكيرَ بنجاحِ حوارِ الأديانِ من دونِ احترامِ التعدديةِ الدينيةِ، فالتنوعُ الثقافيُّ والتعدديةُ الدينيةُ والإثنيةُ، يمنعُ الانعزالَ الاجتماعيَّ للمكوناتِ والانقسامِ الدينيِّ والمذهبيِّ مع الاحتفاظِ بالخصائصِ الذاتيةِ لهويةِ كلِّ مكونٍ، ومعتقداتِ أيِّ دينٍ أو طائفةٍ.
إن ممثلي الدياناتِ المختلفةِ في العراقِ همْ ابناءُ أسرةٍ عراقيةٍ واحدةٍ، يجمعهُم مصيرٌ مشتركٌ، لذا لا توجدُ هوةٌ خلافيةٌ كبيرةٌ بينَ من يعيشونَ على أرضٍ لا انفصالَ فيها، وتجمعُ عقولهَم تحدياتٌ مشتركةٌ، ويحملونَ بين حناياهُم امنياتٍ واحدةً في عيشٍ رغيدٍ، وحياةٍ كريمةٍ.
وبما أنَّ معظمَ مصادرِ الخلافاتِ إما أنْ تكونْ ناتجةً عن جهلٍ بثقافةِ الآخر ومعتقدهِ، أو ناتجةً عن موروثٍ قَبَليٍّ، أو سياساتِ الاستبدادِ لزعاماتِ بعضِ الدولِ الدكتاتوريةِ الأحاديةِ التي تصلُ حدَّ الإقصاءِ أو القتلِ.
لذا جاءَ سعيُ المجلسِ إلى توفيرِ فضاءٍ للقاءاتٍ بقادةٍ دينيينَ ومدنيينَ ومثقفينَ للحدِّ من هذهِ الثقافةِ، ونشرِ الوعيِّ من خلالِ جميعِ الوسائلِ لثقافةِ الاختلافِ، كونَهُ من ضروراتِ الوجودِ الانسانيِّ، الذي تبنتْهُ الأديانُ الابراهيميةُ في الشورى، والذي يبقى سبيلَهُ الوحيدَ لحوار الاديان.
تحدُونا ونحنُ نؤسسُ حواراً فاعلاً للأديانِ، دعوتان للالتزامِ بهما في العملِ المشتركِ:
– دعوةٌ للالتزامِ وتحمّلِ المسؤوليةِ ورفضِ الانعزالِ عن المجتمعِ الإنسانيِّ بما ينطوي عليه من تنوعٍ. وهي في جوهرِها دعوةٌ بتحملِ المسؤوليةِ الأخلاقيةِ (في وقتٍ أصبحَ التنصلُ من المسؤوليةِ والإفلاتُ من العقابِ ثقافةً سائدةً).
– دعوةٌ للعملِ المشتركِ لمواجهةِ التشرذمِ والتفككِ الذي قد يسوقُنا للهلاكِ والنهايةِ غير المحمودةِ .
ونهدفُ من هاتينِ الدعوتينِ للالتزامِ؛ فهمَ الآخرِ، والتواصلَ معَهُ، وتعميقَ العلاقاتِ الإنسانيةِ بما يتفقُ والمضامينَ الأخلاقيةِ والروحيةِ للأديانِ، كونَه ليس باباً لبناءِ السلامِ فحسب، بلْ هو مبدأٌ دينيٌّ، وواجبٌ شرعيٌّ، وهذه بحدِ ذاتِها مسألةٌ ضروريةٌ للإيمانِ الدينيّ، إذ إنَّ مثلَ هذا الحوارِ يقومُ على التزامٍ فعليٍّ ومسؤولٍ، يتجذرُ في الإخلاصِ الداخلي للمؤمنِ.
لا يعني سعينُا لإبرازِ المشتركاتِ في العقيدةِ والجوانبِ الأخلاقيةِ والثقافيةِ والتاريخِ المشتركِ بينَ الأديانِ، التذويبَ أو بناءَ عقائدٍ توليفيةٍ جديدةٍ، بلْ هو بحثٌ صادقٌ عن قواسمَ مشتركةٍ قائمةٍ على الإيمانِ بحقِ كلِّ إنسانٍ أنْ يعيشَ معتقدَهُ بحريةٍ وكرامةٍ، وحقَّهُ في العيشِ الكريمِ. إنَّ مواجهةَ تلكَ التحدياتِ تستدعي وحدتَنَا جميعاً وتقويةَ أواصرَ الثقةِ والأخوةِ البشريةِ لمستقبلِ أجيالِنا.
ليسَ الحوارُ الذي نسعى إليهِ إصدارَ بياناتٍ، أو حضورَ مؤتمراتٍ، أو تعاطفاً شكلياً مع أيِّ طرفٍ، بلْ رغبةٌ حقيقيةٌ للتواصلِ مع الجميعِ، لبناءِ علاقاتٍ ايجابيةٍ. ومن ثمَّ تدعيمها بما يلبي طموحَ المجتمعِ في تحقيقِ الأمنِ والسلمِ والعدالةِ والحريةِ.
يُعززُ الاعترافُ بـ “التعدديةِ في الهويةِ” وتبنّي “الانفتاحَ في الحوارِ” على قاعدةِ “الوحدةِ في التنوعِ”، التلاقحَ بين الثقافاتِ، والتفاعلَ بين المعتقداتِ من أجل تحقيقِ عدالةٍ اجتماعيةٍ، وتكاملَ المصالحِ المتبادلةِ.