كتبت : مريم طلال سعيد
لم أكن أعرف أن أربعة أيام قد تكفي لتهز مشاعري وتعيد تشكيل نظرتي إلى بلدي. عندما انضممت إلى مخيم “بالحوار نبقى ونرتقي”، كنت أحمل معي أسئلة كثيرة: كيف نتعايش؟ كيف نصنع سلاما في بلد مزقته الكراهية؟ اليوم، بعد لقاءات مع رموز دينية، وجولات بين عتبات مقدسة، وحوارات حتى ساعات الفجر، أجد نفسي أجيب بثقة: “العراق ممكن”.
في مكتب آية الله السيد حسين الصدر بالكاظمية، شعرت بأن الحوار ليس كلمات تقال، بل التزام. أربع ساعات من النقاش حول “كيف نبني سلامًا بعد الحرب” جعلتني أدرك أن الخوف من الآخر يذوب عندما تجلس أمامه وتسمعه. قدم شباب سنجار هدية غير متوقعة: صخرة من جبل سنجار. قالوا: “هذه ليست حجرًا، بل هي جزء منا”. في تلك اللحظة، فهمت أن الرموز قد توحد أكثر من الخطابات.
وقفت على جسر الأئمة، أتأمل مرقدي الإمامين الكاظم والجواد في جهة، والإمام أبي حنيفة في الجهة المقابلة. كان المشهد استعارة صادقة للعراق: تنوع يتبارى في الجمال. في الحضرة الحنفية، حاورنا الشيخ عبد الستار عبد الجبار، الذي قال: “الاعتدال ليس خيارًا، بل هو الطريق الوحيد”. هنا، اكتشفت أن الأماكن المقدسة ليست للصلاة فقط، بل للتعلم أيضًا.
عند نصب الإبادة الأرمنية في كاتدرائية القديس كريكور المنور ، شعرت بثقل التاريخ. المطران أوشاكان كولكوليان تحدث عن “السلام الروحي” كسلاح ضد الكراهية. سألته: “كيف نسامح؟” فأجاب: “بالاعتراف بالألم أولا”. كانت تلك الجولة درسا عمليا في أن الذاكرة قد تُبنى لتحيا لا لتموت.
في منزل السيدة نبيهة محاسن، تحول الغداء إلى ورشة عمل غير معلنة. بين أطباق المسكوف والبامية، سألتنا: “هل تعرفون لماذا المطبخ العراقي متنوع؟ لأننا تعلمنا من أرضنا أن التنوع نعمة”. ضحكنا على حكايات الجيران من كل المذاهب، واختلفنا حول أفضل طريقة لتحضير الدولمة، لكننا اتفقنا على شيء واحد: “البغداديون لا يسألون عن دين جارهم حين يطلبون الملح”.
أمام آثار حضارة وادي الرافدين، شعرت بأنني جزء من سلسلة بشرية عظيمة. قال لنا المرشد: “هذه القطع صنعها سكان العراق الأوائل، ولم يسألوا عن هوية من سيأتي بعدهم”. تذكرت حينها صخرة سنجار، وقلت لنفسي: “ربما الحضارة هي أن تترك شيئا جميلا لمن يختلف عنك”.
في الجلسة الختامية، كتب كل منا في قلبه رسالة إلى العراق. كانت رسالتي: “تعلمت أن الحوار ليس نقاشا، بل هو أن تمنح الآخر مساحة في قلبك قبل عقلك”. اليوم، أحمل معي صخور سنجار، كلمات المطران، وصفة البامية للسيدة نبيهة، وأيقونة الإمام أبي حنيفة. لكن الأهم، أحمل يقينا بأن “فرسان الحوار” لم يكونوا مجرد مخيم، بل بداية لطريق طويل… وأنا واحد من فرسانه.
